البحوث القانونيةالقواعد الأصولية والفقهية

القاعدة الخامسة: العادة محكمة

القاعدة الخامسة : (العادة محكمة) (1):

إن العرف والعادة بمعنى واحد، والعادة مأخوذة من المعاودة فهي بتكرارها مرة بعد مرة صارت معروفة مستقرة في النفوس متلقاة بالقبول من غير علاقة ولا قرينة حتى صارت حقيقة عرفية (2)، وسند هذه القاعدة وغيرها من القواعد المتفرعة عنها والتي سيأتي بيانها كمصدر من مصادر تشريع الأحكام في الفقه فيما اعتاده الناس من الأقوال والأفعال ما يلي:

الدليل الأول من القرآن الكريم: ذهب العلماء إلى القول بأن سند العرف قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [١٩٩-الأعراف] وقوله تعالى : (وَعَاشِرُوهُنّ بالمعروفِ) (النساء).

الدليل الثاني من الحديث الشريف : ما روي عن ابن مسعود مرفوعاً قوله: (ما راه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) (3)، وقوله ﷺ : (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)، صحيح البخاري.

إن النصوص الآنفة تدل على أن الأمر الذي يجري عرف الناس على اعتبار حسناً يكون عند الله حسناً، وإن العرف الذي لا يعده الناس حسناً يكون قبيحاً وغير معتبر.

ومن الأدلة الواردة في السنة المطهرة على تحكيم العادة في بعض الأحكام قوله: الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة)(4). قال الإمام العلائي في قواعده: أوجه الدلالة فيه أن أهل المدينة لما كانوا أهل نخيل وزرع، اعتبرت عادتهم في مقدار الكيل وأهل مكة كانوا أهل متاجر فاعتبرت عادتهم في الوزن والمراد بذلك فيما يتقذر شرعاً، كنصب الزكاة ومقدار الديات، وزكاة الفطر، والكفارات، ونحو ذلك (5).

وعلى هذا نبه الإمام العيني في شرح البخاري بقوله: «كل شيء لم ينص عليه الشارع أنه كيلي أو وزني، فيعتبر في عادة أهل كل بلد على ما بينهم من العرف فيه .. لأن الرجوع إلى العرف من القواعد الفقهية (6). ومنها قضاء النبي ﷺ – فيما رواه حرام بن محيص عن أبيه: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته فقضى رسول الله ﷺ على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل (7)

وإن العلماء الذين يقررون أن العرف أصل من أصول استنباط الأحكام الشرعية يقررون أنه دليل حيث لا يوجد نصر، أما إذا خالف العرف النص فهو مردود عليهم لأن اعتبار العرف الفاسد إهمال للنصوص وإبطال للشرائع التي لم تأت لإقرار الأعراف الفاسدة، وإنما جاءت لتقلب الأعراف الفاسدة رأساً على عقب كما يتبين لنا ذلك من روح الشريعة وتوجهها العام، وأصولها المقررة.

ومن هذا الاستعراض يتبين لنا أن العرف نوعان : عرف صحيح، وعرف فاسد.

فأما العرف الفاسد فكما سبق القول: إن الشريعة الإسلامية لا تعترف به بل تعاقب عليه. وأما العرف الصحيح فهو محل اعتبار لإثبات حكم شرعي.

والعادة : إما أن تكون عامة بمعنى أن تكون مطردة أو غالبة في جميع البلدان، وإما أن تكون خاصة بجماعة من الناس أو حرفة من الحرف. والعادة المعتبرة كأساس لبناء الأحكام التكليفية عليها إنما هي العادة السابقة القديمة ، أما العرف الطاريء فلا عبرة له.

إن الأحكام الفقهية التي تفرعت عن هذه القاعدة كثيرة تشمل كثيراً من أبواب الفقه منها:

أ- إذا أرسل شخص آخر لقضاء حاجة له فركب المبعوث سيارة المرسل فتلفت فلا شيء عليه إن كانت العادة بينهما جارية على الانبساط وإلا فإنه يضمن

ب- اعتبار عرف الحالف في مجال الأيمان فلو أن إنساناً حلف ألا يأكل رأساً أو لا يركب دابة أو لا يجلس على بساط لا يحنث إذا أكل رأس عصفور ولا بركوب إنسان ولا بجلوس على الأرض، لأن العرف خص الرأس بما يباع للأكل في الأسواق والدابة ما يركب عليها عادة والبساط بالفراش المعروف الذي يجلس عليه .

ج- ومنه اعتبار الكيل والوزن فيما تُعورف كيله أو وزنه مما لا نص فيه من الأموال الربوية كالزيتون وغيره (8).

أما القواعد التي تتفرع من هذه القاعدة :

1- (استعمال الناس حجة يجب العمل بها) (9).

تعتبر هذه القاعدة من باب التأكيد على القاعدة الأساسية وما يقال فيها قد قيل في القاعدة السابقة فلا داعي لإعادة الكلام .

2- (الحقيقة تترك بدلالة العادة) (10)

سبق أن ذكرنا أن الأمر إذا دار بين الحقيقة والمجاز تترجح الحقيقة ويترك المجاز.

والمراد بالحقيقة هنا هي الحقيقة المهجورة وإلا فإن الحقيقة المستعملة هي المعتبرة، لأن استعمال الناس والتعارف عليه يجعل إطلاق اللفظ على ما تعورف استعماله فيه حقيقة بالنسبة إلى المستعملين ويجعل إطلاقه على معناه الوضعي الأصلي في نظرهم مجازاً.

ومن الأحكام التي تتفرع على هذه القاعدة أنه لو قال واقف يريد وقف داره، إني أوقفت الدار على الفقهاء. فالفقيه كلمة لا تطلق إلا على المجتهد الذي لديه ملكة استنباط الأحكام من مصادرها، وهذا هو الحقيقة، إلا أن لفظ الفقيه جرت العادة إطلاقه على المقلد الحافظ الفروع الأحكام، لذا فإن الوقف يشمل لفظ المقلد الجريان العادة على إطلاق لفظ الفقيه على المقلد في هذه الأيام وما قبلها إلى تاريخ جمود الاجتهاد .

وبناء على هذه القاعدة وضع الفقهاء المبدأ العام القائل: (يحمل كلام الحالف والناذر والموصي والواقف وكل عاقد على لغته وعرفه، وإن خالفا لغة العرب ولغة الشارع) (11).

3- (الممتنع عادة كالممتنع حقيقة) (12).

إن الممتنع من الوجود قد يكون منع وجوده من قبل الحقيقة والواقع، وقد يكون امتناع وجوده من قبل العادة والمألوف وإن كان يمكن وجوده بخلاف الامتناع في الحالة الأولى حيث لا يتصور وجوده فعلا.

فالنوع الممتنع تصوره عقلاً لا تسمع به الدعوى أمام القضاء ابتداء، كأن يدعي من كان عمره ثلاثين سنة أن فلاناً ابنه وكان في الخامسة والعشرين من عمره حين رفع الدعوى فهذه الدعوى لا يسمعها القاضي لأن الواقع يكذبها.

أما النوع الممتنع وجوده عادة وإن كان لا يستحيل وجوده عقلاً كمن يدعي وهو معروف بين الناس في الفقر على غني أن له عنده مبلغاً كبيراً من المال، فهذه الدعوى لا يردها القاضي ابتداء بل يسأل الخصم عنها، فإن دافع لامتناعها عادة ردها حينئذ؛ وذلك أن المدعى عليه لو أقر بمضمون دعوى المدعي حكم القاضي بناء على هذا الإقرار، بخلاف الحالة الأولى فالقاضي يردها، ولو أقر المدعى عليه بالدعوى.

4- (إنما تعتبر العادة إذا أضطردت أو غلبت (13).

5- (العبرة للغالب الشائع لا للنادر) (14).

هاتان القاعدتان تعتبران بمثابة تقييد لكل من قاعدة : العادة محكمة، وقاعدة: استعمال الناس حجة يجب العمل بها.

ويتجلى هذا التقييد في شرطي الاضطراد والغلبة ، فإن لم يتحقق هذا الشرط ان بأن ندرت العادة ، أو نم نعم فلا تراعي حينئذ (15).

6- (التعيين بالعرف كالتعيين بالنص) (16).

تعطي هذه القاعدة للعرف سلطاناً في بيان الالتزامات العقدية كالنص تماماً لأن الفقهاء رأوا أنه لا يشترط في عقد الإجارة أن يبين المتعاقدان أوجه الانتفاع بالعين المؤجرة بصريح اللفظ؛ بل إن العرف يقوم في تحديد هذه المنفعة، فمن استأجر داراً فله أن يسكنها ويسكن معه أهله ويستقبل أضيافه لأن العرف الجاري بين الناس قد حدد طريقة الانتفاع.

وكذلك لو استأجر حانوناً في سوق الذهب فليس له أن يتخذه للحدادة مما يؤذي جيرانه لأن العرف يقضي بذلك (17).

7- (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً)(18)

تعني هذه القاعدة أنه إذا تعارف الناس على أمر واعتادوا التعامل عليه بدون اشتراط صريح فهو واجب الرعاية كأنه اشترط صراحة.

فمن دفع ولده إلى أستاذ مدة معلومة ليعلمه حرفة من الحرف ثم اختلف الأب مع الأستاذ حيث ادعي الأب استحقاق ابنه أجرة، وادعى الأستاذ استحقاقه الأجرة على تعليم الولد فإنه يرجع للفصل بينهما إلى العرف فمن كان العرف بجانبه مُضي له بالأجر دون الآخر.

إنما قيدنا الشرط بالمتعارف عليه؛ لأن غير المتعارف عليه لا يعتبر إلا إذا كان شرطاً يقتضيه العقد، كاشتراط حبس المبيع لاستيفاء الثمن أو يلائمه، كاشتراط كفيل حاضر أو رهن معلوم. فهو غير ما نحن فيه (19).

8- (المعروف بين التجار المشروط بينهم) (20).

وهي بمعنى سابقتها إلا أن الأولى عامة وهذه خاصة في عرف التجار فإذا تعارفوا على أمر وكان لا يصادم نصاً من النصوص فإنه يتبع بحيث تكون له سلطة في تحديد الالتزامات العقدية بين المتعاقدين، ولا تسمع الدعوى في حال التنازع إذا كانت مخالفة للعرف .

وبناء على ذلك قرر الفقهاء أن إنساناً لو اشترى شيئاً من السوق بثمن معلوم ولم بصرحا بالعقد بتأجيل أو تعجيل الثمن فإنه يجري دفع الثمن على ما هو متعارف عليه بين التجار، فإن كانت العادة أن البائع يأخذ قسطاً من الثمن كل جمعة أو شهر ابعت العادة لأنه حيث كان ذلك معروفاً عند التجار صار بمثابة المتفق عليه صراحة (21).

9- (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان) (22).

تعني هذه القاعدة أن الأحكام تتغير بتغير عرف أهلها وعاداتهم فإذا كان عرف الناس وعاداتهم يستدعيان حكماً ثم تغيرا إلى عرف وعادة أخرى فإن الحكم يتغير إلى ما يوافق الأعراف والعادات الجديدة. وإن هذه القاعدة ينحصر تأثيرها على الأحكام المبنية على العرف والعادة لا على النص والدليل، ومن ذلك قول القرافي: الأحكام المترتبة على العوائد تتبع العوائد وتتغير عند تغيرها.

وقد يكون تغير الزمان الموجب لتبديل الأحكام الاجتهادية ناشئاً عن فساد الأخلاق، وفقدان الورع، وضعف الوازع مما يسمونه فساد الزمان. من ذلك ما قرره الفقهاء، من منع خروج النساء إلى الصلاة مع الرجال مع إباحته سابقاً وعللوا ذلك بفساد الزمان. وقد يكون ناشئاً عن حدوث أوضاع تنظيمية ووسائل زمنية جديدة توجب تغيير الأحكام الفقهية المبنية على الأعراف والأحوال السابقة، إذا أصبحت لا تتلاءم مع الأوضاع الجديدة. ومن هذا القبيل وجوب تسجيل الزواج في دوائر الأحوال المدنية لغايات تنظيمية بعد أن كان تسجيل الزواج غير واجب سابقاً (23).


المصادر

  • (1) مجلة الأحكام العدلية ، المادة/ 36، الأشباه والنظائر للسيوطي، ص۸۹، وابن نجيم، ص۹۳ .
  • (2) والحقيقة أن العادة أعم من العرف لأنها تشمل العادة الناشئة عن عامل طبيعي كسرعة
  • البلوغ في المناطق الحارة وبطئه في المناطق الباردة، والعادة الفردية، وعادة الجمهور التي هي العرف)، المدخل الفقهي العام، ۸۳/۲ ، وشرح القواعد الفقهية، ص۲۱۹.
  • (3) مستدرك الحاكم، ج۳، ص۷۸، ونصب الراية، ج٤، ص۱۳۳، باب الإجارة الفاسدة.
  • (4) سنن أبي داود، ج۳، ص۹۳۳، رقم (۳۳٤٠)، والنسائي، رقم (٤٥٩٨) باب الرجحان في الوزن.
  • (5) القواعد الفقهية، ص۲۹۰-۲۹۱.
  • (6) عمدة القاري شرح صحيح البخاري، ۱۰۲/۱۹ .
  • (7) مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، ج٥، ص۱۲، رقم (۳۱۹۹)، وسنن النسائي، ج۷، ص۲۸۹.
  • (8) السيوطي، ص۹۳ ، وشرح المجلة الرستم، ۱/ ٣٤، وغمز عيون البصائر، ۳۰۲/۱ -۳۰۳، والمدخل الفقهي العام، ۲/ ٨٥٨،٨٥٩، بتصرف.
  • (9) مجلة الأحكام العدلية، المادة ۳۷.
  • (10) المصدر نفسه، المادة /٤٠.
  • (11) المدخل الفقهي العام، ۸٥٢/۲ .
  • (12) مجلة الأحكام العدلية، المادة/ ۳۸.
  • (13) مجلة الأحكام العدلية، المادة ٤١.
  • (14) المجلة المادة ٤٣. والأشباه والنظائر للسيوطي، ص۹۲.
  • (15) شرح المجلة الرستم، ص۳۷.
  • (16) المجلة، المادة ٤٥.
  • (17) شرح القواعد الفقهية ، ص۲٤١. 
  • (18) مجلة الأحكام المادة، ٤٣.
  • (19) شرح القواعد الفقهية ، ص۳۳۸، الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص۹۹.
  • (20) مجلة الأحكام المادة ٤٤.
  • (21) شرح المجلة الرستم، ص۳۸.
  • (22) مجلة الأحكام المادة/ ۳۹، والمدخل الفقهي، ۲/ ۹۲۹، والفروق للقرافي ۳/ ۲۹.
  • (23) ومن ذلك أنه لما ندرت العدالة ، وعَرّث في هذه الأزمنة قالوا بقبول شهادة الأمثل فالأمثل والأقل فجوراً فالأقل، وجوزوا تحليف الشهود عند إلحاح الخصم، المادة / ۱۷۲۷ من مجلة الأحكام العدلية، وكذلك جوزوا إحداث أحكام سياسية لقمع الدعارة و أرباب الجرائم عند كثرة فساد الزمان وأول من فعل ذلك عمر بن عبد العزيز رحمه الله فإنه قال: (وستحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجوره)، وهناك زيادة تفصيل في الوجيز، ص۱۸٥.
زر الذهاب إلى الأعلى