الأحكام والاستشارات القضائيةالإستشارات القانونيةالبحوث القانونية

من قواعده أن العادة محكّمة وأن المعروف بين الناس كالمشروط بينهم

‏القضاء يلزم بمثل هذه الأعراف لأن من قواعده أن العادة محكّمة وأن المعروف بين الناس كالمشروط بينهم . ففي بلد نجد القضاء يلزم الآخذ برده ولمستحقه بناء على عرف الناس في لزومه على المبذول له، وفي بلد نجده لا يلزم برده لعرف تلك الناحية بأنه هبة لا دينا.

‎سؤال أتمنى ألا يزعج البعض .. ربما الهدف هو تحريك العصف الذهني حول هذه العادة .. وربما إجابتكم تحل بعض المشاكل الأسرية والحقوقية ..

المبالغ التي تسلم لأم المتزوج ولوالده ليلة الزفاف .. والتي تسلم الأم المولود أثناء زيارة الولادة .. النقوط .. العانية .. من حق من؟

هل هو حق للعريس والمولود أو لمن أعطيت له .. وهل يحق للعريس أن يطالب به .. وأن يغضب وأن يقيم الدنيا إن لم تسلم له..؟ وهل يحق لوالد المولود أن يقول لزوجته أيتها الكريمة هاتي مما أعطاك الله .. ولو شيئاً يسيراً لمن تسبب معك بهذا العطاء؟

الجواب:

ما جرى به عرف الناس في كثير من البلاد من بذل المال في مثل هذه المناسبات السارة، لصاحب العرس ، أو من رزق بمولود ، أو نحو ذلك ، على أن يعود أخذ المال ، فيرد نفس المبلغ ، أو أزيد منه، في مثل هذه المناسبات : لا بأس به ، بل هو أمر حسن ، لما فيه من المواساة بالمال ، ومساعدة الآخرين في مثل هذه المناسبات التي يغلب الحاجة فيها إلى المال ، لكثرة النفقات فيها.

وهذا المال ، وهو المعروف في كثير من البلاد باسم ” النقوط “، هو قرض ، يجب رده في مثل هذه المناسبة ، كما جرى به عرف الناس ، بل إذا احتاجه باذله وطلبه : وجب رده إليه متى طلبه ، ولذلك لا يزال يذكره الباذل له ، ويقيده في أوراق خاصة بمثل هذا النوع من القروض .

وقد نص غير واحد من الفقهاء على أن ” النقوط ” دين ، يجب رده لصاحبه ، على ما جرى به العرف.

وهو قول المالكية و الشافعية والحنابلة.

وقال المرداوي ـ الحنبلي – : “قائدة: قَالَ الكمَال الدميري في شرحه عَلَى الْمِنْهَاج في ” النقوط ” الْمُعَدّاد في الأفراح : قَالَ النّجم البالسي : إنّه كالدَيْنِ لِدّافعه المُطالَبَةً به, وَلا أثر للعرف في ذَلِكَ . فَإِنَّهُ مُضطرب. فَكمْ يَدفع النقوط, ثم يُستَحق أَنْ يُطالب به؟ انتهى “الإنصاف” (8/315).

وقال الرملي و البلقيني من فقهاء الشافعية النقوط هيةً لا تُرد وقال الحنفية المرجع في تكييف النقوط يعود تعرف الناس وعادتهم.

وقال الشيخ سليمان الجمل الشافعي: “وفي أخر فتاوى البلقيني: أن النقوط لا رجوع به اهـ و الظاهر في النقوط الرجوع خلافاً للبلقيني أهـ أقول في العباب في آخر باب القرض ما نصه: خاتمة: النقوط المعتاد في الأفراح، أفتي الباني والأزرق اليمني أنه كالقرض يطلبه متى شاء. وأفتى البلقيني بخلاف” حاشية الجمل على المنهج لزكريا الأنصاري (8/531).

سُئِلَ الفقيه الشافعي : ابن حجر الهيتمي عن حكم النقوط .فأجاب: ” َالنُّقُوطُ : أَفْتَى الْأَزْرَقِيُّ وَالنَّجْمُ الْبَالِسِيُّ بِأَنَّهُ قَرْضٌ ، فَيَرْجِعُ بِهِ دَافِعُهُ , وَخَالَفَهُمَا الْبُلْقِينِيُّ ، وَالْعَادَةُ الْغَالِبَةُ قَاضِيَةٌ بِأَنَّ أَحَدًا لَا يُعْطِي شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بِقَصْدِ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ مِثْلُهُ ، إذَا عَمِلَ نَظِيرَ ذَلِكَ الْفَرَحِ , وَقَاعِدَةُ أَنَّ الْعَادَةَ مُحْكَمَةٌ تُؤَيِّدُ الْأَوَّلَ , وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . ” انتهى . “الفتاوى الفقهية الكبرى” (3/265) .

وقال المرداوي ـ الحنبلي ـ :

” فَائِدَةٌ : قَالَ الْكَمَالُ الدَّمِيرِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمِنْهَاجِ فِي ” النُّقُوطِ ” الْمُعْتَادِ فِي الْأَفْرَاحِ : قَالَ النَّجْمُ الْبَالِسِيُّ : إنَّهُ كَالدَّيْنِ لِدَافِعِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ , وَلَا أَثَرَ لِلْعُرْفِ فِي ذَلِكَ . فَإِنَّهُ مُضْطَرِبٌ . فَكَمْ يَدْفَعُ النُّقُوطَ , ثُمَّ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ ؟ انْتَهَى . (الإنصاف 8/315) .

والشاهد من النص أنه حكم بأن النقوط دين ، يجب رده إلى صاحبه ، حتى مع اضطراب العرف في شأنه ، فأما إذا كان العرف مضطردا برده والمطالبة به : فلا شك في أنه أقوى في القضاء بوجوب رده واعتباره دينا ، وهو ما بنى عليه الهيتمي ترجيحه فيما سبق نقله .

وسئل الشيخ عليش المالكي رحمه الله عن : ” رَجُلٍ صَنَعَ عُرْسًا فَوَهَبَ لَهُ رَجُلٌ إرْدَبَّ قَمْحٍ هِبَةَ ثَوَابٍ , ثُمَّ بَعْدَ سِنِينَ طَلَبَ الْوَاهِبُ الثَّوَابَ فَهَلْ يُقْضَى عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدَفْعِ الثَّوَابِ لِلْوَاهِبِ .. ؟ “

فقال في جوابه :

” نَعَمْ يُقْضَى عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدَفْعِ الثَّوَابِ لِلْوَاهِبِ ، إنْ شَرَطَ ، أَوْ اُعْتِيدَ ، وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ الدَّفْعِ لَا يَوْمَ الطَّلَبِ ، كَمَا فِي الْخَرَشِيِّ وَغَيْرِهِ …

قَالَ ابْنُ الْعَطَّارِ : مَا يُهْدَى مِنْ الْكِبَاشِ وَغَيْرِهَا عِنْدَ الْعُرْسِ : فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلطَّالِبِ بِالْمُكَافَأَةِ عَلَيْهِ ؛ لِلْعُرْفِ ، وَأَنَّ الضَّمَائِرَ مُنْعَقِدَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُهْدِيهِ مِثْلَهَا إذَا كَانَ لَهُ عُرْسٌ …

وَاسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ إذَا كَانَ لَهُ عُرْسٌ : أَنَّهُ يَلْزَمُ الْوَاهِبَ الصَّبْرُ حَتَّى يَحْدُثَ لَهُ عُرْسٌ ، وَنَحْوُهُ فِي الْبُرْزُلِيِّ . وَظَاهِرُ كَلَامِ التَّتَّائِيِّ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ إلَيْهِ ، إنْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ . وَتَبِعَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَالْخَرَشِيُّ وَنَصُّهُ : وَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ الثَّوَابَ إلَّا أَنْ تَفُوتَ بِيَدِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ يَوْمَ قَبْضِ الْهِبَةِ ، وَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ شَيْئِهِ مُعَجَّلًا , وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَصْبِرَ إلَى أَنْ يَتَجَدَّدَ لَهُ عُرْسٌ انْتَهَى …” انتهى .

وفي السؤال التالي له :

” مَا قَوْلُكُمْ فِيمَنْ دَفَعَ لِآخَرَ نُقُوطًا فِي فَرَحٍ , ثُمَّ طَالَبَهُ بِهِ فَهَلْ يُجَابُ لِذَلِكَ مُعَجَّلًا , وَلَا يَلْزَمُهُ التَّأْخِيرُ حَتَّى يَحْدُثَ لَهُ فَرَحٌ أَفِيدُوا الْجَوَابَ؟

فَأَجَبْت : بِأَنَّهُ يُجَابُ لِذَلِكَ مُعَجَّلًا ، لِلنَّصِّ الْمَذْكُورِ فِي الْجَوَابِ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . ” انتهى .” فتح العلي المالك” (2/268) .

ثانيا : ما جرت به العادة من رد هذا النقوط ، مع زيادة أخرى للمهدي ، تصبح دينا عنده ، ويصبح هو مدينا بهذا النقوط الجديد : الذي يظهر أنه لا بأس به ، إن شاء الله ؛ فإن هذه الزيادة التي جرى العرف بها : لن يتملكها الباذل الأول نظير القرض الذي بذله (النقوط) ؛ بل هي نوع من المكافأة والمواساة والعدل في المعاملة : فكما أن الباذل الأول أقرضك عند حاجتك ، فمن العدل أن تقرضه أنت عند حاجته ، وليس فقط أن ترد إليه دينه ، وهي تشبه ، من بعض الوجوه ، جمعية الموظفين : التي يقرض فيها كل واحد صاحبه ، على أن يقرضه الآخر إذا جاءت نوبته في استلامها .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى : (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) الليل/19-21 : ” والمعنى : لا يقتصر في العطاء على من له عنده يد يكافئه بذلك ؛ فإن هذا من العدل الواجب للناس بعضهم على بعض ، بمنزلة المعاوضة في المبايعة والمؤاجرة ، وهذا واجب لكل أحد على كل أحد ؛ فإذا لم يكن لأحد عنده نعمة تجزى : لم يحتج إلى هذه المعادلة ، فيكون عطاؤه خالصا لوجه ربه الأعلى”.

“منهاج السنة النبوية” (7/372) ، وينظر : “الفروع” لابن مفلح (4/638) ، “الاختيارت” ، لشيخ الإسلام (183) .

تنبيه: إذا جرى العرف في بلد معين بأن ما يعطى في مثل هذه المناسبات إنما هو هبة محضة ، لا ينتظره باذله رده ، ولا يطلب ثواباً عليه ، فهذا ليس ديناً ، ولا يجب على آخذه إحصاؤه ، ورده ، وإن كان يستحب له أن يكافئ المعطي على ذلك .

وهكذا إن قامت قريبة قوية على أن صاحبه لا ينتظر أن يسترد ما بذله ، كأن يكون أباً أو أخاً أو صديقاً حميماً أراد أن يهديه أو يواسيه بماله .

أما إن كان العرف الدارج أن من يتكفل بالعرس تسلم له، والأصدقاء يسلمون المعونة لصديقهم، ويردها عليهم في أقرب مناسبة لهم . فهنا لا يجوز أخذها دون المتكفل بالمناسبة.

أما ما يأخذه الوالد من مال أبنه فقد ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال لمن جاء إليه وقال: إن أبي اجتاح مالي، قال: أنت ومالك لأبيك، وجاء أيضا عنه ﷺ أنه قال: إنّ أطيب ما أخذتُم من كسبكم، وإنّ أولادكم من كسبكم.

والحديث ليس على إطلاقه بحيث أن الأب يأخذ من مال ابنه ما يشاء ، كلا ، و إنما يأخذ ما هو بحاجة إليه.

فالمقصود أن الحرج مرفوع عن أخذ شيء من مال الولد فلا يحتاج إلى استئذان فيأخذ مايحتاجه من لباس و مال وطعام لا يضر ابنه.

يقول ابن عبد البر رحمه الله: “ليس على التمليك، ولكنه على البر به، والإكرام له” انتهى. “الاستذكار” (525 /7).

فللوالد أن يأخذ من مال ولده ومن مال بنته كذلك بلا ضرر ؛ لقوله ﷺ: لا ضرر ولا ضرار، أما ما يضرُه يُمنع، أما إن كان يضها لأنّ المهر قليل والحاجات كثيرة فلا يأخذ منه شيئا، بل يدعه لها حتى تُصلح به شأنها، والله المستعان.

يقول ابن الأثير رحمه الله: “على معنى أنه إذا احتاج إلى مالك أخذ منك قدر الحاجة، وإذا لم يكن لك مال وكان لك كسب لزمك أن تكتسب وتتفق عليه، فأما أن يكون أراد به إباحة ماله له حتى يجتاحه ويأتي عليه إسرافا وتبذيرا فلا أعلم أحدا ذهب إليه” انتهى. “النهاية في غريب الحديث” (1/ 834).

وهنا يمكن القول إن كان الأب هو المتكفل بالعرس عن ابنه فالعرف أن تتصرف المعونة له .

أما إن كان الابن هو المتكلف بعرسه فالمعونة تتصرف له وتكون دينا عليه حسب العرف ، ولا يجوز للاب حينها أخذ منها شيئاً. إلا بالقدر الي لا يضر ابنه .

أما إن كان الأب وأبنائه على عادة أن يرد الأب فقط مثل هذه الديون دون أبنائه، ولم يعرف عن أبنائه مشاركة في مناسبات الغير، وأن من ساهم في عرس الابن فهو من باب رد الجميل للأب أو لأجله، فللأب حق استلامها وصرفها فيما يشاء .

وكذلك الأمر في الهدايا والنقوط التي تبذل للمولود للأب أو الأم تجري عليها المعادلة وردها كدين ..

والأصل أن يذهب هذا المال الحاجات المولود ويتأكد ذلك إن كان الأب يرد هذه المكافئة عن زوجته المستلمة حينها يتأكد كونها للمولود وحاجاته، إلا أن الزوجين في غالب يتعافون بينهم مثل هذه الأموال ويعتبرونها هدية للأم وهي من محاسن الأخلاق بين الزوجين.

وخلاصة الأمر أن النقوط من العادات والأعراف الحسنة في المجتمع، وله أثر طيب في التكافل الاجتماعي، وأن النقوط شرعاً يندرج تحت الهبات والهدايا والصدقات والعطايا، وهذه الألفاظ متقاربة في المعنى، وقد وردت الأدلة الشرعية بفضيلتها، وأن التكييف الفقهي للنقوط شرعاً، وكانت هذه المسألة محل خلاف بين الفقهاء، فمنهم من اعتبره قرضاً يجب سدادُهٔ مستقبلاً، ومنهم من اعتبره هبةً لا تُردّ. وقد أوردنا من يعتبره ديناً يلزم رده .

وكما قلنا أن الصحيح أن المرجع في تكييفه يعود لعرف الناس وعادتهم. وهو الراجح، والأفضل في رأيي هو سداد النقوط مستقبلاً، عملاً بما صح في الحديث أن النبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها. فقد صح في الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله ﷺ: يقبل الهدية ويثيب عليها» (رواه البخاري). وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن أعرابياً وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هيبةً، فأثابه عليها)

أم من حيث الأثر القانوني لهذه العادة المجتمعية إن كانت مثار خلاف:

فالقضاء في يلزم بمثل هذه الأعراف لأن من قواعده أن العادة محكمة وأن المعروف بين الناس كالمشروط بينهم . واستعمال الناس يجب العمل به، ففي بلد نجد القضاء يلزم الأخذ برد مثل هذه النقوط لمستحقه بناء على عرف الناس في لزومه على المبذول له وأنه قرض يجب سداده ، وفي بلد نجد القضاء لا يلزم بردها لكونها من الهبات والهدايا والإحسان الذي من عرف الناس في تلك الناحية لا ترده ولا تعتبره ديناً أو قرضاً يجب سداده.

د. ياسر البلوي

زر الذهاب إلى الأعلى