Web Analytics
البحوث القانونيةشرح القواعد الفقهية

القاعدة الثامنة و التسعون: الضرورات تبيح المحضورات, في شرح القواعد الفقهية

القاعدة الثامنة و التسعون: الضرورات تبيح المحضورات

291 -تعريف الضرورات و المحظورات:

الضرورات جمع ضرورة، و هي في اللغة شدة الحال و هي اسم لمصدر الاضطرار، تقول: حملتني الضرورة على كذا و كذا، و اضطر فلان إلى كذا و كذا، و الاضطرار معناه الاحتياج إلى الشيء.

و الضرورة في الاصطلاح الشرعي: الحالة الملجئة لتناول الممنوع شرعاً.

و عرفها بعض الفقهاء بأنها بلوغ الإنسان حدًّا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب .

أما المحظورات فهي الممنوعة شرعاً، أي: المحرمة شرعاً.

292 -معنى القاعدة:

و المعنى العام للقاعدة أن حالة الضرورة التي يكون الإنسان فيها تبيح له تناول المحرم عليه شرعاً، وفق شرط و قيود سنذكرها إذ أن هذه الإباحة التي تجبها حالة الضرورة ليست على عمومها، ولا على إطلاقها كما سنبين ذلك إن شاء الله تعالى .

293 -دليل القاعدة:

أما دليل هذه القاعدة: فالنصوص الكثيرة في كتاب الله العزيز منها: قوله تعالى: [ إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ] [البقرة: 173 ]، و جاء في تفسير هذه الآية: ((فمن اضطر)) إلى شيء من هذه المحرمات، و المضطر هو المكلف بالشيء الملجأ إليه المكره عليه، و المراد هنا من خاف التلف، و المضطر إما بإكراه أو بجوع في مخمصة … إلخ

294 -ما تبيحه الضرورة من المحظورات، و ما لا تبيحه:

يباح للمضطر تناولها دفعاً للهلاك عن نفس المضطر، و قد ذكرنا قوله تعالى: [ إنما حرّم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ].

و قول المفسرين أيضاً في هذه الآية قول الإمام القرطبي: فأباح الله في حالة الاضطرار أكل جميع المحرمات، لعجزه في جميع المباحات.

و قال أيضاً في قوله تعالى: [ إلا ما اضطررتم إليه ]: يريد من جميع ما حرم، كالميتة و غيرها ، و قال ابن قدامة الحنبلي في المغني بعد أن بين إباحة الأكل من الميتة عند الاضطرار: (( و كذلك سائر المحرمات )).

296 -ثانياً:

و بالنسبة للاضطرار إلى مباشرة المحظور من الأدوية و غيرها في حالة المرض كالنظر إلى العورات و لمسها، فالقاعدة هنا الجواز مع بعض التحفظات عند بعض الفقهاء.

297 -ثالثاً: إباحة النطق بالكفر عند الاضطرار إليه بالتهديد بالقتل إن لم ينطق المكره بذلك، و الأصل في جواز ذلك للضرورة، قوله تعالى: [ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أُكره و مطمئنٌ بالإيمان و لكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله و لهم عذابٌ عظيمٌ ] [ النحل: 106 ] و قد قال أهل التفسير في هذه الآية: نزلت في عمار بن ياسر، أخذه المشركون و أباه و أمه و أخذوا يعذبونهم و يكرهونهم على الكفر، فأعطاهم عمار بعض ما أرادوا بلسانه مكرهاً، فشكا ذلك إلى الرسول ( صلى الله عليه و سلم )، فقال له: ((كيف تجد قلبك))؟ قال: مطمئن بالإيمان،فقال عليه الصلاة و السلام: (( فإن عادوا فعد)).

علماً بأن النطق بالكفر عند ضرورة الإكراه رخصة لا عزيمة؛ لأن العزيمة عدم النطق بالكفر،  و لو أدى إلى موت المكره، و النطق بكلمة الكفر للضرورة مع اطمئنان القلب بالإيمان هو نطق للضرورة فهو رخصة، و الأخذ بالعزيمة لمن استطاعها أولى، و إذا قتل بسبها فهو شهيد؛ لأنه موت في سبيل الله فهو ضرب من ضروب الجهاد بالنفس،و المقتول في هذا الجهد شهيد باتفاق الفقهاء.

298 -رابعاً: جواز الكذب و الحلف عليه عند الضرورة:

الكذب حرام في شرع الإسلام، فإذا كان مع الحلف كان أشد تحريماً ، و لكن مع هذا يجوز الكذب و الحلف عليه لضرورة تخليص نفس بريئة من الهلاك أو امرأة يريد الزنا بها فاختفيا عند أحد من الناس ، جاز لهذا إنكار وجودهما عنده، و الحلف على ذلك، و كذلك يجوز للوديع إنكار الوديعة و الحلف على إنكاره إذا طلبها ظالم متغلب باغ؛ لأن مفسدة الكذب أهون من مفسدة القتل و الزنا و غصب المال و الضرورات تبيح المحظورات، و الضرر الأشد يدفع بتحمل الضرر الأخف، بل إن الكذب في هذا الموطن واجب دفعاً للإثم، قال الإمام عز الدين بن عبد السلام: و لو صدق في هذه المواطن -التي ذكرناها- لأثم إثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد.

299-خامساً: أخذ مال الغير للضرورة:

و يجوز عند الضرورة أخذ مال الغير أو إتلافه بل و أخذه قهراً و جبراً على صاحبه إذا امتنع من بذله، و لم يكن بحاجة إليه، و على المضطر أن يدفع ثمن ما أخذه من مال الغير بسب الضرورة؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير .

300-سادساً: الضرورة لا تبيح قتل النفس:

ولا تبيح حالة الضرورة قتل نفس بريئة، أو فعل الفاحشة بامرأة،فلو أكرخ شخص على ذلك بالتهديد بالقتل، إن لم يفعل ما أكره عليه من قتل معصوم الدم أو الزنا بامرأة ، لم يجز له فعل ذلك، وتعليل ذلك أن نفس البريء معصومة كنفس المكره، وليس إبقاء حياته وتخليصها من الهلاك بأولى من إبقاء حياة غيره، فيكون قتله هذا الغير بغير حق، والله تعالى يقول: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق” ، وكونه مضطراً إلى إتلاف نفس الغير إبقاءً لحياته لا ييبرر له هذا الاضطرار ارتكاب هذه الجريمة؛ لأن الاضطرار لا يبطل حق الغير بالحياة.

وكذلك لا يجوز للمكره على الزنا ارتكاب هذه الفاحشة بحجة الاضطرار إليها بإكراهه عليها بالقتل، إن لم يفعل؛ لأن الزنا لا يباح لرجل لا بالإكراه ولا بغيره وإذا فعله فهو آثم، ولكن المرأة إذا أكرهت إكراهاً ملجئاً على الزنا، ولم تستطع دفعه وسعها أن تمكن من نفسها، ووجه الفرق بين الرجل والمرأة: أن الرجل مباشر لفعل الزنا مستعمل آلته في ذلك، وحرمة الزنا حرمة تامة لا تزول في حالة الإكراه بالقتل، ولا يسقط الإثم عن مرتكبه، أما المرأة فهي المفعول بها وليس من جهتها مباشرة الفعل، وإنما الذي منها هو التمكين فقط من ذلك بالاستسلام والعجز عن الامتناع وتركه، وفي حالة الضرورة يجوز ترك الامتناع بلا إثم كما في تارك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند خوف الهلاك على النفس، يجوز ذلك للتارك ولا إثم عليه.

301-ومن أمثلة وتطبيقات القاعدة:

أولاً: من شرح مجلة الأحكام العدلية: يسوغ لأولياء الأمور هدم البيوت المجاورة للحريق منعاً لسريانه، كما يسوغ لهم منع المصاب بالأمراض الوبائية من مخالطة الناس خوفاً من سريان المرض إليهم، وجواز أخذ مال الممتنع عن أداء الدين بغير إذنه، أو بيعه جبراً عليه تسديداً لدينه.

ثانياً: ومما ذكره ابن نجيم والسيوطي يجوز أكل الميتة عند المخمصة، وإساغة اللقمة بالخمر، والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه، وكذا إتلاف المال ، وأخذ مال الممتنع من أداء الدين بغير إذنه، ودفع الصائل ولو أدى إلى قتله.

302-تقييد الشافعية للقاعدة:

ويقيد الشافعية قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات) بقولهم : “بشرط عدم نقصانها عنها” ومرادهم بهذا القيد أن لا تكون مفسدة إباحة المحظورات أعظم من مفسدة حالة الضرورة التي يراد دفعها بفعل المحظور، ومثلوا لذلك بقولهم: “كما لو أ:ره على القتل أو الزنا، فلا يباح واحد منهما بالإكراه، لما فيها من المفسدة التي تقابل حفظ مهجة المكره، أو تزيد عليها، وكما لو دفن بغير تكفين فلا ينبش، فإن مفسدة هتك حرمته أشد من عدم تكفينه الذي قام الستر بالتراب مقامه”.

303-رأي ابن نجيم في تقييد الشافعية:

إن ابن نجيم الحنفي لم يعتبر ما ذكره الشافعية قيداً حيقيًا للقاعدة، فقد قال رحمه الله تعقيباً على هذا القيد: ولكن ذكر أصحابنا رحمهم الله ما يقيده فإنهم قالوا: ثم ذكر الأمثلة التي ذكرناها عن الشافعية، والتي قالها الأحناف نفسهم، وزاد عليها ابن نجيم بقوله: وكذا قالوا -أي الحنفية- لو دفن غسل وأهيل عليه التراب، صلي على قبره ولا يخرج.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى