أخبار التنفيذ العاجلالبحوث القانونيةالتسبيباتالخطاباتاوامراوامر القضائيةنظام التنفيذنماذج قاضي التنفيذ

كيف نفهم حديث: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)

كيف نفهم حديث: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)؟؟

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:
فقد أخرج البخاري (4552) ومسلم (1711) – واللفظ لمسلم – عن ابن عباس، أنّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “لو يعطى الناس بدعواهم، لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدّعى عليه”. وفي رواية لهما: “أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قضى باليمين على المدعى عليه”. وأخرج البيهقي (10/252) وغيره بسند صححه ابن حجر، وحسنه النووي، وابن الصلاح، وابن رجب والمناوي، عن ابن عباس، أن النبي– صلى الله عليه وسلم – قال: “لو يعطى الناس بدعواهم، لادّعى رجال دماء قوم وأموالهم، لكن البينة على المدّعي، واليمين على من أنكر”.  هذا الحديث له مكانة كبيرة في الإسلام وهو “أصل من أصول الأحكام، وأعظم مرجع عند التنازع والخصام، ويقتضي أن لا يُحكم لأحد بدعواه” [شرح الأربعين لابن دقيق العيد ص(116) ط: ابن حزم. وقال النووي – رحمه الله -: “هذا الحديث قاعدة كبيرة من قواعد أحكام الشرع، ففيه أنه لا يقبل قول الإنسان فيما يدعيه بمجرد دعواه، بل يحتاج إلى بيّنة أو تصديق المدعى عليه، فإن طلب يمين المدعى عليه فله ذلك” [شرح صحيح مسلم (6/284). وبيّن النبي – صلى الله عليه وسلم – الحكمة في كون البينة على المدعي واليمين على المنكر، وأن المدعي لا يعطى بمجرد دعواه وهي أنه لو أعطي كل من ادعى دعوى ما ادعاه، لادعى من لا يراقب الله تعالى على الأبرياء دماءً وأموالاً يبهتونهم بها. [توضيح الأحكام (7/241)، وشرح مسلم للنووي (6/284).

 

الحديث أصل في القضاء:

“وهذا الحديث يعتبر أساساً وأصلاً في علم القضاء، والحديث مع إيجازه يبين واقع العدالة والإنصاف في الإسلام، وأن كل دعوى ليس عليها بينة فهي مرفوضة” [شرح الأربعين النووية للشيخ عطية محمد سالم – رحمه الله – على الشاملة. وقال الشيخ ابن عثيمين– رحمه الله -: “هذا الحديث أصل عظيم في القضاء، وهو قاعدة عظيمة في القضاء ينتفع بها القاضي وينتفع بها المصلح بين اثنين وما إلى ذلك”.[شرح الأربعين للشيخ ابن عثيمين من الشاملة. وقال الشيخ عبد الله البسام – رحمه الله -: ” هذا حديث عظيم القدر؛ فهو أصل من أصول القضاء والأحكام … ” [توضيح الأحكام (7/242) ط: دار الميمان. قلت: لذلك تجد المحدثين يخرجون هذا الحديث في أبواب الشهادات، أو الأقضية، أو الأحكام من كتبهم، وكذا الفقهاء يتكلمون على فقه هذا الحديث ودلالاته في كتاب القضاء.لذلك فإنه يتعلق بهذا الحديث طرفان هما: المدعي، والمدعى عليه وقاض: ترفع له الخصومة. والبيّنة أو اليمين على ما ذكر في الحديث. فلا يقبل شرعاً ولا عقلاً أن يكون طرف في خصومة ما هو نفسه الحكم والقاضي فيها.

 

تعريف المدعي والمدعى عليه:

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -: “واختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه، والمشهور فيه تعريفان: الأول: المدعي من يخالف قوله الظاهر والمدعى عليه بخلافه، والثاني: من إذا سكت ترك وسكوته، والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت، والأول أشهر، والثاني أسلم… ” [فتح الباري (5/400) ط:دار مصر.

 

ما هي البيّنة؟

البيّنة هي اسم لكل ما أبان الحق وأظهره؛ من الشهود، وقرائن الحال، ووصف المدعي في نحو اللقطة، والإقرار، وفهم القاضي للمسألة باختبار، يختبر به الخصمين، فيظهر به له وجه الحق.[ توضيح الأحكام (7/241) وشرح الأربعين للشيخ صالح آل الشيخ على الشاملة. قال ابن القيم – رحمه الله – “وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره ومن خصها بالشاهدين، أو الأربعة، أو الشاهد، لم يوف مسماها حقه. ولم تأت البينة قط في القرآن مراداً بها الشاهدان؛ وإنما أتت مراداً بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة. وكذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم: (البينة على المدعي) المراد به: أن عليه بيان ما يصحح دعواه؛ ليحكم له، والشاهدان من البينة.  ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها؛ لدلالة الحال على صدق المدعي؛ فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد. والبينة، والدلالة، والحجة، والبرهان، والآية، والتبصرة، والعلامة، والأمارة، متقاربة في المعنى… فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلالات الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهداً لها بالاعتبار، مرتبا عليها الأحكام” [الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ص(16) تحقيق: مجمد جميل غازي. وقال الشيخ عطية محمد سالم – رحمه الله -: “البينة ليست قاصرةً على الشهود أو الإقرار فقط، فقد تكون قرينة من القرائن أقوى من مائة شاهد، وقد يتواطأ الشهود على شهادة الزور، وقد يقر الإنسان إقراراً غير واقع، فالأمر دقيق جداً، وفي القرآن الكريم والسنة اعتبار القرائن” [شرح الأربعين النووية للشيخ عطية محمد سالم – رحمه الله – على الشاملة. ومن البينة الصحيحة المقبولة في الأموال وما يقصد بها خاصة شهادة شاهد واحد مع يمين المدعي؛ فإن النبي – صلى الله عليه وسلم – قضى بالشاهد واليمين كما صح ذلك من حديث ابن عباس – رضي الله عنه – الذي أخرجه مسلم (1712)، وأحمد (2224)، وأبو داود (3608)، وابن ماجه (2370) وغيرهم. قال النووي– رحمه الله -: “وقال جمهور علماء الإسلام من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار يقضي بشاهد ويمين المدعي في الأموال وما يقصد به الأموال، وبه قال أبو بكر الصديق، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والشافعي، وأحمد، وفقهاء المدينة، وسائر علماء الحجاز، ومعظم علماء الأمصار رضي الله عنهم. وحجتهم أنه جاءت أحاديث كثيرة في هذه المسألة من رواية علي، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وجابر، وأبي هريرة، وعمارة بن حزم، وسعد بن عبادة، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم. قال الحفاظ: أصح أحاديث الباب حديث ابن عباس. قال ابن عبد البر: لا مطعن لأحد في إسناده. قال: ولا خلاف بين أهل المعرفة في صحته… ” [شرح صحيح مسلم (6/285) ط: دار إحياء التراث الأولى سنة 1420. وقال ابن رجب– رحمه الله -: “المدعي إذا أقام شاهداً، فإنه قد قوي جانبه، فإذا حلف معه قُضي له” [جامع العلوم والحكم ص(383) وانظر أيضاً توضيح الأحكام (7/243(. وقال العلامة الفقيه ابن عثيمين – رحمه الله -: “البيّنة في دعوى الأموال رجلان، أو رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدَّعي؛ لقوله ـ تعالى ـ: “وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء”[البقرة: 282.، وثبت بالسنة الصحيحة الصريحة أنّ النبي – صلى الله عليه وسلم – قضى بالشاهد واليمين” [الشرح الممتع (15/ 335-336) ط: ابن الجوزي.

 

متى تكون اليمين من المدعى عليه؟

أخرج البخاري في صحيحه (2667) قصة الأشعث بن قيس عندما جحد اليهودي أرضه قال:
كان بيني وبين رجل يهودي أرض فجحدني، فقدّمته إلى النبي – صلى الله عليه وسلم -، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “ألك بيّنة؟”  قال: قلت: لا، قال: فقال لليهودي: “احلف” قال: قلت: يا رسول الله! إذاً يحلف، ويذهب بمالي…الحديث. وفي هذا دلالة على عدم جواز طلب اليمين من المدعى عليه إذا قال المدعي: لدي بيّنة.  قال الحافظ: “وفي الحديث حجة لمن قال: لا تعرض اليمين على المدعى عليه إذا اعترف المدعي أن له بينة” [الفتح (5/396(.. فإذا عُدمت البيّنة وأقرّ المدعي بعدم وجود بيّنة إلا دعواه، طولب المدعى عليه باليمين. وفيه أن المدعى عليه لا يحلف إلا إذا طلب القاضي منه ذلك بناء على طلب المدّعي .قال في زاد المستقنع: “ولا يعتدُّ بيمينه قبل مسألة المدّعي” قال العلامة الفقيه ابن عثيمين – رحمه الله – شارحاً لكلام صاحب الزاد:”أي: لا يعتد بيمين المنكر قبل سؤال المدّعي الحاكمَ أن يحلفه، فلو أنّ الحاكم تعجّل لما رأى المدعى عليه أنكر، قال: احلف، قبل أن يقول خصمه: حلّفه، فإن اليمين هنا لا يعتدُّ بها، لأن هذه اليمين صارت قبل وجود السبب، وتقدم الشيء على سببه لا يعتدُّ به، كما قرره ابن رجب – رحمه الله -في القواعد، فالحق للمدعي، فإذا حلّفه قبل سؤاله، فقد حلفه قبل وجود السبب، فلا يعتد بهذه اليمين” [الشرح الممتع (15/320).

 

هل يمين المدعى عليه تعتبر تكذيباً للمدعي إذا لم يحضر البيّنة؟!

وليس في يمين المدعى عليه تكذيباً للمدعي؛ لأن اليمين يقصد بها فقط فك الخصومة، ورفع النزاع، وتخلية سبيل كلا الطرفين دون حكم على أحدهما بإدانة أو تجريم أو تكذيب؛ قال العلامة الفقيه ابن عثيمين – رحمه الله -:”اليمين يقصد بها فك الخصومة، بحيث لا يتعرّض المدعي للمدعى عليه، فما تُبَرِّئُ الإنسان إبراءً تاماً، والبينة تثبت الحق، ولهذا قال المؤلف: (ولم تكن اليمين مزيلة للحق) فاليمين لا تزيل الحق، لكنها ترفع الخصومة فقط” [الشرح الممتع (15/324) وقال ابن رجب – رحمه الله -: “قوله في الحديث الآخر: (ولكن اليمين على المدعى عليه) إنما أريد بها اليمين المجردة عن الشهادة، وأول الحديث يدل على ذلك و هو قوله: (لو يعطي الناس بدعواهم لا دعي رجال دماء رجال وأموالهم) فدل على أن قوله: (اليمين على المدعى عليه) إنما هي اليمين القاطعة للمنازعة مع عدم البينة، وأما اليمين المثبتة للحق مع وجود الشهادة فهذا نوع آخر وقد ثبت بسنة أخرى” [جامع العلوم والحكم ص(383) ط: ابن حزم. بل وليس في يمين المدعى عليه إبطالاً للدعوى بالكلية وحكماً بأن المدعي لا حق له؛ لأن المدعي قد يقول: مالي بينة، ويحلف المدعى عليه، ثم يأتي المدعي بالبينة ولو بعد حين، فتقبل منه، ويقضى له على المدعى عليه. وهذا الذي اختاره العلامة الفقيه ابن عثيمين في “الشرح الممتع” (15/324).  وأخيراً؛ فليس ما كتبت شرحاً للحديث؛ فإنّ الكلام عليه طويل الذيل، كثير الشعب، متعدد الفروع، لكنّ مقصدي من هذه الكتابة الرد على مغالطات من لم يفهم الحديث على وجهه الصحيح، واتهمنا وبعض إخواننا بتحريف معناه(!!). فهذا كلام العلماء في هذا الحديث جليُّ مفهوم ولا نقول إلا به، فهل هؤلاء العلماء حرّفوا معنى الحديث؟ لكنني أقول لمن طعنني وإخواني بتحريف معنى هذا الحديث – وكلامه مسجّل -: (البيّنة على المدّعي واليمين على المدعى عليه)، فأين بينتك؟!

هدى الله ضال المسلمين إلى الحق، والحمد لله رب العالمين.

زر الذهاب إلى الأعلى