البحوث القانونيةشرح القواعد الفقهية

القاعدة السادسة والسبعون: إذا اجتمع الحلال و الحرام غُلب الحرام, في شرح القواعد الفقهية

القاعدة السادسة والسبعون: إذا اجتمع الحلال و الحرام غُلب الحرام

222- أصل القاعدة:

أورد جماعة حديثاً بلفظ:” ما اجتمع الحلال و الحرام إلا غلب الحرامُ الحلالَ”.
ولكن الحديث لا أصل له أو ضعيف، فقد قال الحافظ أبو الفضل العراقي: لا أصل له وقال السبكي في الأشباه و النظائر، نقلاً عن البيهقي: هو حديث رواه جابر الجعفي ، وهو رجل ضعيف،عن الشعبي، عن ابن مسعود،وهو منقطع، و قال السيوطي : وأخرجه من هذا الطريق عبد الرزاق في “مصنفه”، وهو موقوف على ابن مسعود و ليس مرفوعاً ، ثم قال ابن السبكي: غير أن القاعدة في نفسها صحيحة، قال الجويني: لم يخرج عنها إلا ما ندر.

223- أساس القاعدة:

  • من السنة النبوية: وإذا لم تكن هذه القاعدة بلفظها حديثاً نبوياً صحيحاً ، فإن هناك جملة من الأحاديث تصلح أن تكون أساساً و مستنداً لهذه القاعدة.

    ومنها: الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ” الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما أمور مشتبهات أو مشبّهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه و عِرْضه، و من وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإنّ لكل ملكٍ حمى، ألا و إن حمى الله محارمه” والمشبّهات: جمع مشبه وهو كل ما ليس واضح الحل والحرمة مما تنازعته الأدلة و تجاذبته المعاني بعضها يعضده دليل الحرام و بعضها يعضده دليل الحلال.

    ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: ” دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”.

  • ومن الآثار التي تصلح أساساً للقاعدة: قال عثمان رضي الله عنه لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين؟ قال: أحلتهما آية و حرمتهما آية، و التحريم أحب إلينا، وقال الإمام الزركشي رحمه الله بعد أن ذكر رواية عثمان رضي الله عنه: قال الأئمة: و إنما كان التحريم أحب لأن فيه ترك مباح لاجتناب محرم و ذلك أولى من عكسه.

224- معنى القاعدة:

هذه القاعدة يشمل حكمها حالتين: (الأولى) : أن يجتمع الحلال و الحرام و (الثانية): أن يتقابل الدليلان في حكم المسألة: دليل التحريم و دليل التحليل.

225- حكم القاعدة في الحالة الأولى:

 (الحالة الأولى): والحكم فيها النظر إلى الأكثر والغالب من الحلال والحرام فيكون حكم الأكثر هو حكم الكل, قال الإمام العز بن عبد السلام: فإن قيل ما تقولون في معاملة من اعترف بأن أكثر ماله حرام هل تجوز أو لا؟ قلنا: إن غلب الحرام عليه بحيث يندر الخلاص منه لم تجز معاملته مثل أن يقر إنسان أن في يده ألف دينار كلها حرام إلا ديناراً واحداً فهذا لا تجوز معاملته بدينار لندرة الوقوع في الحلال, كما لا يجوز الاصطياد إذا اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية وإن عومل بأكثر من دينار أو اصطياد أكثر من حمامة فلا شك من تحريم ذلك وإن غلب الحلال بأن اختلط درهم حرام بألف درهم حلال جازت المعاملة كما لو اختلطت أخته من الرضاع بألف امرأة أجنبية أو اختلطت ألف حمامة برية بحمامة بلدية فإن المعاملة صحيحة جائزة لندرة الوقوع في الحرام وكذلك الاصطياد وبين هاتين الرتبتين من قلة الحرام وكثرته مراتب محرمة ومكروهة ومباحة, وضابطها أن الكراهة تشتد بكثرة الحرام وتخف بكثرة الحلال فاشتباه أحد الدينارين بآخر سبب تحريم بين, واشتباه دينار حلال بألف دينار حرام سبب تحريم بين وبينهما أمور مشتبهات مبنية على قلة الحرام وكثرته بالنسبة إلى الحلال, فكلما كثر الحرام تأكدت الشبهة وكلما قل خفت الشبهة إلى أن يساوي الحلال الحرام فتستوي الشبهة.

226- الاحتياط يقضي بتغليب الحرام, وإن لم يكن هو الأكثر:

ومع هذا فإن الحرام وإن لم يبلغ حد الغلبة, ولا قريباً منها فإن الاحتياط يقتضي بعدم تناول هذا الخليط ترجيحاً لجانب الحلال احتياطاً, ويؤيد ما نقول الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه ابن ماجه عن عطية السعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به البأس”.

وفي حديث أخرجه الترمذي وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”.

227- حكم القاعدة في الحالة الثانية:

وفي هذه الحالة إذا تعارض دليلان أحدهما يقتضي التحريم والآخر الإباحة قدم دليل التحريم, ومن ثم قال عثمان رضي الله عنه لما سئل عن الجمع بين أختين بملك اليمين: أحلتهما آية وحرمتهما آية, والتحريم أحب إلينا.

ومن ذلك تعارض حديث: “لك من الحائض ما فوق الإزار”. وحديث: “اصنعوا كل شيء إلا النكاح”.

فإن الحديث الأول يقتضي تحريم ما بين السرة والركبة, والثاني يقتضي إباحة ما عدا الوطء فرجح التحريم احتياطاً وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومالك والشافعي, رحمهم الله تعالى.

228- أمثلة وفروع للقاعدة:

منها: لو شارك الكلب المعلم غير المعلم في الصيد حرم ما يقتلانه من صيد, أو شارك كلب مجوسي أو كلب لم يذكر عليه اسم الله عمداً حرم ما يقتلانه من الصيد.

ومنها: ما لو أسلم على أكثر من أربع زوجات فإنه يحرك عليه الوطء قبل الاختيار.

ومنها: لو رمى صيداً فوقع في ماء أو على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض حرم للاحتياط, والاحتياط الحرمة, بخلاف ما إذا وقع على الأرض ابتداء فإنه يحل لأنه لا يمكن التحرز عنه فسقط اعتباره.

ومنها: لو اشتبهت محرمة بأجنبيات محصورات لم تحل.

229- مستثنيات القاعدة:

منها: الاجتهاد في الأواني والثياب, والثوب المنسوج من حرير وغيره يحل إن كان الحرير أقل وزناً وكذا إن استويا في الأصح عند الشافعية, بخلاف ما إذا زاد وزناً, ووجه الاجتهاد في الأواني إذا كان الأقل طاهراً عملاً بالأغلب فيهما.

ومنها: إذا كان الحرام مستهلكاً فلو أكل المحرم شيئاً قد استهلك فيه الطيب فلا فدية.

ومنها: إذا اختلط لبن المرأة بماء أو بدواء أو بلبن شاة فالمعتبر الغالب وتثبت الحرمة إذا استويا احتياطاً, واختلف فيما إذا اختلط لبن امرأة بلبن أخرى, والصحيح ثبوت الحرمة فيهما من غير اعتبار الغلبة.

ومنها: إذا كان غالب مال المهدي حلالاً فلا بأس بقبول هديته وأكل ماله ما لم يتبين أنه من حرام, وإن كان غالب ماله حرام لا يقبلها ولا يأكل إلا إذا قال: إنه حلال ورثه أو استقرضه.

ومنها: إذا غلب على ظنه أن أكثر بياعات أهل السوق لا تخلو عن الفساد فإن كان الغالب هو الحرام تنزه عن شرائه ولكن مع هذا لو اشتراه يطيب له.

ومنها: معاملة من أكثر ماله حرام إذا لم يعرف عينه لا يحرم في الأصح عند الشافعية, ولكن يكره وكذا الأخذ من عطايا السلطان إذا غلب الحرام في يده.

ومنها: لو اعتلفت الشاة علفاً حراماً لم يحرم لبنها ولحمها ولكن تركه ورع.

ومنها: لو اختلطت محرمة بنسوة قرية كبيرة فله النكاح منهن.

ومنها: لو اختلط حمام مملوك بمباح لا ينحصر جاز الصيد, ولو كان المملوك محصور في الأصح عند الشافعية.

ومنها: لو اختلط في البلد حرام لا ينحصر لم يحرم الشراء منه بل يجوز الأخذ أن يقترن به علامة على أنه من الحرام.

زر الذهاب إلى الأعلى