البحوث القانونيةالقواعد الأصولية والفقهية

شرح القاعدة (اليقين لا يزول بالشك).

القاعدة الثانية : (اليقين لا يزول بالشك) (1).

وجاءت القاعدة بصيغة : (اليقين لا يزال بالشك). قال الزركشي (2): «ما ثبت بيقين لا يرتفع إلا بيقين»، وفي كتاب «التمهيد» لابن عبدالبر جاءت بصيغة : اليقين لايزيله الشك ولا يزيله إلا يقين مثله، وفي «معالم السنن» للخطابي جاءت بصيغة: الشك لايز حم اليقين.

وفي (إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك) (3): «الذمة إذا عمرت بيقين فلا تبرأ إلا بيقين»، وفي «التمهيدا لابن عبدالبر : «الفرائض لا تجب إلا بيقين» وجاء فيه أيضاً: «الشك لا يلتفت إليه، واليقين معمولك عليه»..

ومعنى القاعدة : أن ما كان ثابتاً لا يرتفع بمجرد طروء الشك عليه لأن الأمر اليقيني لا يمكن أن يزيله ما هو أضعف منه، بل من الممكن أن يزيله ما يساويه ، أو ما كان أقوى منه .

ودليل هذه القاعدة في قوله : إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً) (4). وحديث: (إذا شك أحدكم في صلاته فلم يُذرِ كم صلى؟ أثلاثاً أم أربعاً؟ فليطرح الشك وليَبْنِ على ما استيقن) (5).

ثم عقب السيوطي بقوله (6): «اعلم أن هذه القاعدة تدخل في جميع أبواب الفقه، والمسائل المُحَجة عليها تبلغ ثلاثة أرباع الفقه وأكثر». ويتبين ذلك من خلال ما يتفرع عليها من القواعد وهي إحدى قاعدة :

1- قاعدة : (الأصل بقاء ما كان على ما كان) (7)، المادة/5، وهي إحدى القواعد الكلية. وهي دليل الاستصحاب (8)، الذي هو من مصادر التشريع عند الجمهور.

ومعنى القاعدة : أن ما ثبت على حال في الزمان الماضي – ثبوتاً أو نفياً – يبقى على حاله ولا يتغير ما لم يوجد دليل يغيره .

ومن قواعد الاستصحاب كذلك قاعدة : الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته» المادة / ۱۱.

وقريب من هذه القاعدة ما تُبت بزمان يُحكَم ببقائه ما لم يوجد دليل على خلافة» المادة/ ۱۰ وسيأتي الحديث عليها لاحقاً، ومن الأمثلة على قاعدة الأصل بقاء ما كان على ما كان، ما لو ادعى المفترض أنه دفع الدين إلى من أقرضه إياه ، أو ادعى المشتري أنه دفع الثمن للبائع، أو ادعى المستأجر دفع الأجرة لصاحب الدار وأنكر كل من : المقرض، والبائع، والمؤجر كان القول لهؤلاء المنكرين مع اليمين، أي أن هذه الأموال تُعتبر باقية في ذمة المقترض والمشتري والمستأجر ما لم يثبتوا الدفع لأنها كانت مستحقة عليهم بيقين، فالأصل بقاؤها في ذممهم حتى يثبت سقوطها ولهم في هذه الحالة تحليف الدائن والبائع والمؤجر على أنهم لم يقبضوا، فإذا حلفوا قضي لهم بالأموال على المقترض والمشتري والمستأجر (1).

2- قاعدة: (القديم يترك على قدمه): المجلة /٦.

القديم: هو الذي لا يوجد من يعرف أوله. ومعنى هذه القاعدة أن المتنازع فيه إذا كان قديماً تراعي فيه حالته التي هو عليها من القدم بلا زيادة ولا نقصان ولا تغيير ولا تحويل، وإنما لم يجز تغيير القديم عن حاله أو رفعه بدون إذن صاحبه ، لأنه لما كان من الزمن القديم على هذه الحالة المشاهدة، فالأصل بقاؤه على ما كان عليه ولغلبة الظن أنه ما وضع إلا بوجه شرعي، فلو كان تدار إنسان ميزاب على دار غيره أو كانت له بالوعة أو ممر في أرض غيره، أو تحميل لجذوع داره على جدار جاره من القديم فأراد ذلك إزالته فليس له ذلك بل يحق لصاحبه إبقاؤه ولو لم يعرف بأي وجه وضع لأن قدّمَهُ دليل على مشروعية وضعه، كما لو كان موضوعاً في الأصل مقابل مال أو بطريق القسمة أو غيره من الأسباب المشروعة فمنعه ضرر لصاحبه لا مسوغ له (2).

إلا أن هذه القاعدة يرد عليها استثناءان (3):

 

 

المصادر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • (1) مجلة الأحكام المادة /٤، والأشباه والنظائر للسيوطي، ص٥٠، وفي غمز العيون والبصائر، ج ۱، ص ۱۹۳. ترتيب للمدركات وهي كالتالي:
  • اليقين : وهو جزم القلب مع الاستناد إلى الدليل القطعي.
  • الاعتقاد : وهو جزم القلب من غير استناد إلى الدليل القطعي .
  • الظن: وهو تجويز أمرين أحدهما أقوى من الآخر.
  • الشك: وهو تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
  • الوهم : وهو تجويز أمرين أحدهما أضعف من الآخر.
  • (2) المنشور في القواعد للزركشي، ج۳، ص۱۳٥، والتمهيد ۲/ ۳٥، ومعالم السنن ۳/ ۱٥٠. 
  • (3) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص۱۹۹، والتمهيد لابن عبدالبر ۲۸۳/۱۹ و ١٤/٣٣٩
  • (4) صحيح البخاري، في باب (لا يتوضا من الشك حتى يستيقن) ، ج۱، ص٤٣، وصحيح مسلم في باب: الدليل على من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، ج۱، ص۳۹۲.
  • (5) صحيح البخاري، باب: «إذا لم يدر كم صلى؟»، ج۲، ص۹۷، وصحيح مسلم، باب : والسهو في الصلاة، ج۱، ص۰۰.
  • (6) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص٥٠
  • (7) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص٥١
  • (8) الاستصحاب: وهو الحالة الثابتة في وقت ما مستمرة في سائر الأوقات حتى يثبت أنقطاعها أو تبدلها (المدخل الفقهي العام ۲/ ٩٦٨).
  • (9) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص٥١. الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص٧٥. شرح القواعد الفقهية، ص۷۹.
  • (10) شرح القواعد الفقهية، ص٩٥.
  • (11) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص ٥٣. والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص٥٩.
زر الذهاب إلى الأعلى