البحوث القانونية

إن موضوع الحق في الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية

الملـخص

إن موضوع الحق في الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية ، هو من المواضيع الحديثة في مجال الدراسات القانونية المتعلقة بحقوق الإنسان ، إذ تكاد تَكون الكتابات التي تتناول جوانب تفاصيلهُ شحيحة إذا قُورنت بوفرة المصادر للمواضيع التي تتناول حقوق الإنسان الأخرى.
إن ظاهرة الاستنكاف الضميري قَديمة قِدم الحرب ذاتها ، ولكن اختلفت طُرق التعبير عنها من زمن لآخر ، إذ يَذكر لنا التاريخ أنَّ أوضح صورة لها تَتجلى في أوقات النزاع المسلح ، حينما تتعارض فكرة الحرب مع معتقدات الشخص الدينية والضميرية.

 

ولا توجد نصوص في اتفاقيات دولية كَفلت الحماية لهذا الحق الإنساني ، الأمر الذي جعل الممارسة الدولية ، تأخذ على عاتقها مهمة الدفاع عنهُ ومشروعية الادعاء بهِ بالاستناد إلى الحق في حرية الفكر والوجدان والدين الذي كفلتهُ الاتفاقيات والمواثيق الدولية ، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 ، إذ كان للممارسة الدولية ، ممثلة بلجنة حقوق الإنسان (سابقاً) ، واللجنة المعنية بحقوق الإنسان الدور الكبير والمهم في إيجاد الأساس القانوني للحق المذكور ، من خلال القرارات والتقارير الدورية التي أيّدت وشرحت أركان هذا الحق ، ولا ننسى أن نُشير إلى دور البلاغات (الشكاوى الفردية) التي قُدمت ولا تزال ، خاصةً إلى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان ، والتي أنصفت العديد ممن انطبق عليهم وصف الضحية ضد بلدانهم ، لما لاقوهُ من تعسف واعتداء على حدود الحق في حرية الفكر والدين والوجدان من جهة ، ومن ثم الاعتداء على الحق في الاستنكاف الضميري نفسهُ باعتبارهِ حقاً مشتقاً عن الحق الأول من جهة أخرى ، ثم تطور دور تلك الممارسة ليشمل اجتهادات لجنة حقوق الإنسان (سابقاً) واللجنة المعنية بحقوق الإنسان وتوصياتهما من خلال التقارير والتعليقات العامة على التقارير القطرية ، بالإضافة إلى حثّ الدول الأعضاء على ضرورة ضمان ذلك الحق بنصوص قانونية وطنية.

 

إنَّ تزايد أعداد المستنكفين الضميرين بالإضافة إلى الضغط الشعبي ، هو ما جعلَ الاعتراف بهِ على المستوى الوطني حقيقة لا تقبل الشك ، إذ إن هناك الكثير من المستنكفين ضميرياً ، ممن هم كانوا ومازالوا مستعدين لتحمل العقوبات البدنية بل والخضوع لها مراراً وتكراراً كعقوبة الحبس ، وما يُرافقها من انتهاكات كالتعذيب مثلاً ، بل ويصل الأمر بهم في بعض الأحيان إلى التصفية الجسدية ، ولاسيّما أثناء العقود الأولى من القرن العشرين ، والتي أفرزت بوادر الاعتراض الضميري الأول ، ولاسيّما في دول أوربا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وكندا نتيجة انتشار الوعي الضميري المخالف للحروب وأعمال القتال على وجه التحديد.

 

ولم يقتصر الأمر على الممارسة الدولية ، بل تعداها ليشمل دور الممارسة الإقليمية والتي كان لها الدور الكبير في كفالة الحماية الإقليمية للحق في الاستنكاف الضميري ، بل ومن خلال بحثنا وجدنا أن بعض التقارير الدورية للجنة حقوق الإنسان (سابقاً) أشارت إلى بعض أحكام المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان ، والتي أنصفت ممن اعتراهم الشعور بالاستنكاف الضميري ، إذ غطت أحكام المادة (9) من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والمتعلقة بحماية الحق في حرية الفكر والدين والوجدان جوانب هذا الحق ، على اعتبار أن الاعتراض أو الاستنكاف الضميري نابع عن المفردات المذكورة ، ولاسيّما بعد دخول البرتوكول الحادي عشر الملحق بالاتفاقية دور النفاذ عام 1998 ، والذي ساهمَ في جعل قضاء المحكمة إلزامياً ، ما جعلها تُنصف الكثير من ضحايا أصحاب هذا الحق ولم يتوقف الأمر على هذا الجانب ، بل إن الميثاق الأوربي للحقوق الأساسية لعام 2000 ، أشارَ إليهِ بصورة صريحة حينما أعطى للشباب الحق في عدم الاشتراك في الحروب وفقاً للقوانين المحلية التي تحكم ممارسة هذا الحق.

 

إنَّ ما جعلنا نُقدم على البحث في موضوع الاستنكاف الضميري ، هو كون هذا الحق مُقتصر في نطاق تطبيقهُ على الغرب من جهة ، وخلو مكتبة الشرق الأوسط ، بل وسبقها إلى ذلك خلو نصوص قوانين الخدمة الوطنية والعسكرية من أيّة إشارة صريحة أو ضمنية إليهِ ، ما خلا الإشارة إلى الحق في حرية الفكر والدين والضمير باعتبارهِ من الحقوق المحمية دولياً من جهة أخرى إلى البحث في ماهية هذا الحق ، وقد واجهنا من الصعوبات فيما يتعلق بجمع مصادر هذا الحق الشيء الكبير ، حتى على المستوى الأوربي وجدنا قلة الكتابات في هذا الجانب بالإضافة إلى كونها اقتصرت على البحوث والتقارير ، سواء الصادرة عن أجهزة مجلس أوربا مثل لجنة حقوق الإنسان الأوربية أو المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أو بحوث لبعض المنظمات غير الحكومية أو لبعض الكُتّاب ، وقد تناولنا هذا الموضوع من حيث استعراض مفهوم الحق في حرية الفكر والدين والضمير ، باعتبارهِ الأساس الذي انبثقَ منهُ هذا الحق كما بيَّنت ذلك الممارسة الدولية والإقليمية بالإضافة إلى الوطنية في نطاق ضيق.

 

 

ثم أردفنا البحث ، بمفهوم الحق في الاستنكاف الضميري عن الخدمة العسكرية في القوانين الوطنية ، واستعرضنا دور الأساس الدستوري والتشريعي في توفير الحماية الكاملة والفعاَّلة لهُ ، بعد أن تناولنا بشيء مقتضب مفهوم الخدمة العسكرية وأنواعها ، ثم بيّنا من أنه إذا كانَ الحق في الاستنكاف الضميري يُمثل نوعاً من الإعفاء من الخدمة العسكرية ، فإن هذا الإعفاء ليس مطلقاً من أيّ التزام قانوني ، بل إن هناكَ خدمة بديلة يقضيها المجند أو المتطوع بدلاً من الخدمة العسكرية ، وهي ليست من نوع واحد ، بل تنقسم إلى نوعين خدمة بديلة غير قتالية ، وخدمة بديلة مدنية ، مستعرضين نصوص القوانين والتعليمات العسكرية لأهم تجارب بعض الدول الأوربية وغيرها من حيث كيفية منحه ، والمدة التي يقضيها المجند أو المتطوع في الخدمة البديلة.

 

 

وانتهى البحث بخاتمة بَيَّـنا فيها أهم النتائج والتوصيات ، والتي نأمل أن تأخذ طريقها إلى صانع القرار ، وصياغتها في نصوص قانونية دولية و وطنية تكفل احترام هذا الحق بما يُساهم ويُعزز في كفالة كافة جوانب الحماية للحقوق الأساسية للإنسان.

واللَّه من وراء القصد

 

 

البــاحــث

 

زر الذهاب إلى الأعلى