البحوث القانونيةشرح القواعد الفقهية

القاعدة العشرون: المشقة تجلب التيسير, شرح القواعد الفقهية

Table of Contents

القاعدة العشرون: المشقة تجلب التيسير

69- معنى القاعدة:

جاء في نفس القاعدة التي نحن بصدد شرحها ما يبين معناها والمقصود منها،إذ جاء فيها: المشقة تجلب التيسيير ، يعني أن الصعوبة تصير سبباً للتسهيل، ويلزم التوسع في وقت الضيق..إلخ، فإذا صار المكلف أو وجد نفسه في حالة يتحمل فيها عنتاً وصعوبة وعناءً غير معتادة إذا قام بما هو مكلف فيه شرعاً ، فإن تلك الحالة تصير سبباً شرعياً لتسهيل التكليف عليه على نحو لا يجد في القيام به العناء والصعوبة، كالمريض لا يستطيع الصلاة قائماً ، فيصير مرضه سبباً شرعياً للتخفيف عنه بعدم تكليفه بالصلاة قائماً ، بل بالإذن له والسماح له بأداء الصلاة قاعداً واعتبار صلاته هذه صحيحة ومجزية، كصلاته قائماً في حالة صحته.
70- أدلة هذه القاعدة:

والأدلة الشرعية لهذه القاعدة كثيرة جداً، فجميع نصوص القرآن والسنة التي تصرح برفع الحرج عن الناس، وإرادة اليسر بهم، وما جاءت به الشريعة من ( الرخص) كلها تدل على أصالة هذه القاعدة ومشروعيتها مما يجعلنا متيقنين بأن الشريعة الإسلامية ليس من مناهجها البتة إرهاق الناس، وتحميلهم ما لا يطيقون ، فمن النصوص الدالة على هذه القاعدة ما يأتي:
1- قال تعالى:”يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر” (البقرة:185)

2-وقال تعالى:”وما جعل عليكم في الدين من حرج” (الحج: 78)
3-وقال تعالى:” يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الانسن ضعيفا” (النساء:28)

4-وقال تعالى:” لا يكلف الله نفساً إلا وسعها” (البقرة:286)

5-وقال البخاري في صحيحه: باب الدين يسر : وقول النبي (صلى الله عليه وسلم):( أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة)(1)، ثم أخرج البخاري في هذا الباب حديثاً عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وسلم): ( إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة)(2) وجاء في شرح الحديث وعنوان بابه : الدين يسر، أي: دين الإسلام ذو يسر، أو سمي الدين يسراً مبالغةً بالنسبة إلى الأديان قبله، لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، وقوله: أحب الدين، أي:خصال الدين، لأن خصال الدين كلها محبوبة، لكن ما كان فيها سمحاً_أي: سهلاً_ فهو أحب إلى الله، وقوله: أحب الدين إلى الله،والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تنسخ أو تبدل.
(الحنيفية): أي ملة ابراهيم، و(السمحة): السهلة، أي : أنها مبنية على السهولة، لقوله تعالى: ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة ابيكم ابراهيم). وقوله:” لن يشاد الدين أحد إلا غلبه” أي: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب “فسددوا” أي: الزموا السداد وهو الصواب من غير إفراط ولا تفريط، وقال أهل اللغة: السداد هو التوسط في العمل ، “وقاربوا” أي إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه “وأبشروا” أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل، “واستعينوا بالغدوة” أي: استعينوا على مداومة العبادة بإيقاعها في الأوقات المنشطة ،

71- أهمية هذه القاعدة: قال العلماء: يتخرج على هذه القاعدة جميع رخص الشرع وتخفيفاته ، وقد أرجع بعض علماء الشافعية جميع مذهب الشافعي الى أربع قواعد هي:
1- اليقين لا يزال بالشك.
2- المشقة تجلب التيسير.
3- الضرر يزال.
4- العادة محكمة.
وأضاف بعضهم إلى هذه القواعد خامسة هي: الأمور بمقاصدها. التي قال البعض عنها بأن الإمام الشافعي قال بحقها: يدخل في هذه القاعدة ثلث العلم(.

72- أنواع المشاق من جهة مدى شمولها بالقاعدة(4):
المشاق قسمان:
أحدهما: مشقة لا تنفك عنها التكاليف الشرعية غالباً كمشقة الوضوء والغسل في البرد، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج

والجهاد عنها ، ومشقة ألم الحد ورجم الزنا، وقتل الجناة، وقتل البغاة ، فهذا القسم من المشاق لا أثر له في إسقاط العبادات وبالتالي فلا تشمله هذه القاعدة، المشقة تجلب التيسير.

والقسم الثاني: مشقة تنفك عنها التكاليف الشرعية غالباً، وهو أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة، كمشقة الخوف على النفوس، والأطراف ومنافع الأطراف ، فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص، لأن حفظ النفوس والأطراف لحفظ مصالح الدارين أولى من تعريضها للقوات في عبادة أو عبادات ، ثم تفوت أمثالها، فهذا النوع من المشاق تشمله القاعدة ، قاعدة “المشقة تجلب التخفيف”.
النوع الثاني:مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع، أو سوء مزاج خفيف ، فهذا النوع لا اعتبار له ولا يوجب التخفيف والتسهيل، لأن تحصيل مصالح القيام بالتكاليف الشرعية أولى من رفع مثل هذا النوع من المشاق ، وبالتالي فهذا النوع من المشاق لا تشمله القاعدة.
النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة والشدة، فما دنا منها من المشقة العليا (من النوع الأول) أوجب التخفيف، وما دنا منها من المشقة الدنيا( من النوع الثاني) لم يوجب التخفيف الا عند أهل الظاهر كالحمى الخفيفة ووجع الضرس اليسير، وما وقع بين هاتين الرتبتين (النوع الأول والنوع الثاني) مختلف فيه، منهم من يلحقه بالنوع الأول ، فتشمله القاعدة، قاعدة: “المشقة تجلب التيسير”. ومنهم من يلحقه بالنوع الثاني، فلا تشمله القاعدة، ولكن كلما كانت المشقة أقرب الى النوع الأول كانت أولى بجلب التخفيف، فتشملها القاعدة ، وكلما كانت أقرب الى النوع الثاني كانت أولى بعدم التخفيف وبعدم شمولها بالقاعدة.
73- أسباب المشقة المعتبرة:
ذكر الفقهاء للمشقة المعتبرة أسباب هي: أسباب إذا وجدت اعتبر الشرع وجودها علامة على وجود المشقة التي تقتضي التيسير فتشملها  قاعدة : “المشقة تجلب التيسير” وهذه الأسباب هي :السفر، المرض، الإكراه، النسيان، الجهل، العسر، وعموم البلوى ، والنقص.
ويذكر فيما يلي بعض فروع وتطبيقات كل سبب من هذه الأسباب.
74- أولاً السفر:
السفر مظنة المشقة، فهو سببها وهذه المشقة تجلب التخفيف ومن هذه التخفيفات : قصر الصلاة وجمعها والفطر في رمضان وصلاة النفل على الدابة، وجواز ترك صلاة الجمعة، والقرعة بين نسائه لتصحبه في سفره من تخرج قرعتها (1).
ومنها أيضا(2):
(1)ابن نجيم،المرجع السابق،ص84،السيوطي:المرجع السابق،ص104″قواعد ابن رجب” ص300-301.

(2) الشيخ أحمد الزرقاء،المرجع السابق،ص105-106.
أ- جواز بيع الانسان مال رفيقه، وحفظ ثمنه لورثته بدون ولاية ولا وصاية اذا مات في السفر ولا قاض ثمة.
ب- جواز تزويج الولي الأبعد للصغيرة عند عدم انتظار الكفء الخاطب استطلاع رأي الولي الأقرب المسافر.
ج- جواز انفاق المضارب على نفسه في السفر من مال المضاربة.
د- جواز كتابة القاضي الى القاضي في بلد المدعى عليه بشهادة شهود المدعي عنده.

75- المرض(1) : (1) ابن نجيم،ص 86، السيوطي: ص104-105
ورخصه وتخفيفاته كثيرة، نذكر منها ما يأتي:
أ- التيمم عند الخوف على نفسه، أو على عضوه، أو من زيادة المرض أو بطء يرثه.
ب- القعود في صلاة الفرض والاضطجاع فيها، والإيماء، والفطر في رمضان، والاستنابة في الحج، وفي رمي الجمرات، وإباحة محظورات الإحرام مع الفدية، والتداوي بالنجاسات وإساغة اللقمة بالخمر إذا غص وإباحة النظر للطبيب للعورة والسوأتين لضرورة العلاج.
76- ثالثا الإكراه
الإكراه من العوارض المكتسبة وعرفه بعضهم بأنه حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه ولا يختار مباشرته لو خلي نفسه (2) ، وعرفه اخرون بأنه حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحمال على إيقاعه ويصير الغير خائفاً به.(3)
(2) النبوع: (2/196)، وينظر “التقرير والتحبير” (2/206)

(3) “كشف الأسرار” (4/1503)
وهو نوعان:
الأول: الاكراه الملجئ: وهو الذي يكون بالتهديد بإتلاف النفس أو بعضو منها، لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعا لها ومن الاكراه التهديد باتلاف جميع المال أو يقتل من يهم الانسان أمره.
والثاني: الإكراه الغير ملجئ وهو يكون بأن لا يتلف النفس أو عضواً منه، كالضرب المبرح والحبس، ونحو ذلك.
77- شروط تحقق الإكراه

يشترط لتحقيق الاكراه الذي يؤثر في تصرفات المكره أن يكون المكره الحامل متمكننا من ايقاع ما هدد به وأن يكون المكره الفاعل وهو الذي يقع عليه الاكراه خائفا من هذا التهديد وأن يفعل ما أكره عليه تحت تأثيرهذا الخوف، وأن يكون المكره به أي: ما هدد به ضررا يلحق النفس باتلافها أو باتلاف عضو منها، أو بدون ذلك كالضرب الشديد الذي لا يطاق ونحو ذلك، وكذلك بالتهديد باتلاف المال اذا لم يكن قليلا والتهديد بالحاق الضرر الشديد بمن يهم المكره أمره.
78- أثر الاكراه في تصرفات المكره

  • بالنسبة للأقوال عند جمهور الفقهاء لا يترتب على قول المكره حكم بل تهدر أقواله، فلا يقع طلاقه ولا بيعه ولا أي تصرف قولي اخر كما لا يعتبر ما نطق به من كفر مع اطمئنان قلبه بالايمان، قال تعالى عن المكره على التلفظ بالكفر: ” الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان” (النحل:106).

    وفي الحديث النبوي الشريف :” ان الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”.

    ب- أثر الاكراه بالنسبة للأفعال الأفعال التي أباح الشرع الاسلامي مباشرتها عند الضرورة كشرب الخمر وأكل الميتة فهذا يباح للمكره (الفاعل) مباشرتها بل يجب عليه مباشرتها، فاذا امتنع عنها أثم لأن الله تعالى أباحها له وتناول المباح دفعا للهلاك عن النفس واجب لا يجوز تركه، وهناك أفعال يرخص في فعلها عند الضرورة فيجوز فعلها للمكره، لأنه في حالة ضرورة، واذا امتنع عنها لم يؤثم بل يؤجر على امتناعه وان كان في امتناعه هلاك نفسه، مثل اكراه على أفعال الكره، وقلبه مطمئن للايمان كالسجود لصنم، ومن هذا النوع من الأفعال اتلاف مال الغير، فان فعله جاز ذلك والضمان على المكره (الحامل) لا على المكره (الفاعل)، وهناك أفعال لا يجوز فعلها ولو أكره عليها كقتل النفس، فلا يجوز للمكره أن يقتل غيره لينجو هو من القتل الذي هدد به ان لم يقتل البريء، لأنه لا يجوز للانسان أن يرفع الضرر عن نفسه بالحاق الضرر بغيره، فان فعله كان آثما، وعليه وعلى المكره القصاص، وهذا عند الجمهور، وأما عند الحنفية فالقصاص على الحامل لا على الفاعل، لأنه صار كالآلة بيد الحامل (المكره) والقصاص على مستعمل الآلة لا على الآلة.

    79- رابعا: النسيان

  • النسيان هو عدم تذكر الشيء وقت حاجته اليه، واتفق العلماء على أنه مسقط للإثم مطلقاً، أي: سواء كان في حقوق الله تعالى أو في حقوق العباد للحديث النبوي الشريف: ” إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه.” ومما يسقط حكمه بالنسيان لو أكل الصائم أو شرب ناسياً لم يبطل صومه، أو نسي المديون الدين حتى مات، فإن كان ثمن مبيع أو قرض لم يؤاخذ به، وإن كان غصباً يؤاخذ به ، وقد يكون النسيان شبهة تدراً عنه عقوبة الحد، لأن الحدود تدراً بالشبهات.

    80- خامساً: الجهل(1):

  • الجهل وهو عدم العلم ممن شأنه أن يعلم، وهو قد يجلب التيسير، ومن تخفيفاته وتيسيراته ما يأتي:

  • جهل الشفيع بالبيع عذر في تأخير طلب الشفعة.

    ب- جهل الوكيل أو القاضي العزل، أو المحجور بالحجر عذر في جعل تصرفاتهم صحيحة إلى أن يعلموا بذلك.

ج- الجهل بكونه مال الغير يرفع الإثم لا الضمان.
د- إذا عفا بعض الورثة عن القاتل عمداً ثم قتله الباقون، إن علم أن عفو البعض يسقط القصاص، اقتص منه، وإن جهل ذلك لم يقتص منه، لأن هذا يجهله الناس.    ه- لو كان في المبيع ما يشتبه به على الناس كونه عيباً، واشتراه المشتري عالماً به وجهل أنه عيب ثم علم أنه عيب فإنه له رده ولا يعتبر إطلاعه عليه حين الشراء رضاً بالعيب.
و- العفو عن التناقض في الدعوى فيما كان سببه خفياً، كالتناقض في النسب والطلاق كما لو ادعى أحد على آخر أنه أبوه فأنكر المدعى عليه بنوته، ثم عاد وقال : إنه ابنه. يثبت النسب، ولو اختلعت المرأة من زوجها على بدل ثم ادعت أنه طلقها ثلاثاً قبل الخلع وأثبتت ذلك فإنها تسترد البدل ويغتفر تناقضها في إقدامها على الخلع ثم ادعائها الطلاق الثلاث، لأن الطلاق فعل الغير، فإن الزوج يستبد به بدون علمها فكانت معذورة بجهلها الطلاق.
ز- من أسلم في دار الحرب ولم تبلغه أحكام الشريعة، فباشرالمحرمات جاهلاً حرمتها يعذر لجهله.
81- سادساً: العسر وعموم البلوى:
وهذا السبب من موجبات التيسير والتخفيف لأنه من أسباب المشقة كالأسباب التي تكلمنا عنها في الفقرات السابقة، والمراد بالعسر صعوبة تجنب الشيء ومن عموم البلوى شيوع ما يتعرض له الإنسان بحيث يصعب التخلص منه(1)، ومن التخفيفات لهذا السبب(2)، الصلاة مع أثر نجاسة عسر زواله، ودم البراغيث، والبق في الثوب وإن كثر، وبول ترشش على الثوب قدر رؤوس الإبر، وطين الشوارع، وخرء حمام وعصفور وإن كثر، وقليل الدخان النجس، والعفو عن الريح والفساء، إذا أصاب السراويل المبتلة أو المعقودة، ومشروعية الاستنجاء بالحجر مع أنه ليس بمزيل ومس المصحف للصبيان مع حدثهم للتعلم، ومسح الخف في الحضر لمشقة نزعه في كل وضوء ومن ثم وجب نزعه للغسل لعدم التكرار، وإن الماء يبقى على طهارته ولا يضره التغير بالمكث والطين والطحالب وكل ما يعسر صونه عنه وذهب أبو حنيفة إلى عدم وجوب الجمعة والحج على الأعمى وإن وجد قائداً دفعاً للمشقة عنه.

– ومن تطبيقات هذا السبب أيضاً:

إنه لا يحكم على الماء بأنه مستعمل مادام متردداً على العضو، والجمع بعذر المطر، ومنها أيضاً عدم وجوب قضاء الصلوات على الحائض، لتكررها بخلاف الصوم ولكون الصوم في السنة شهراً، والحج في العمرة مرة والزكاة ربع العشر تيسيراً وتخفيفاً على المكلفين بهذه العبادات.
وجواز أكل مال الغير للمضطر مع دفع الضمان، وإباحة لبس الحرير للحكة والقتال، وبيع الموصوف في الذمة كالمسلم، فقد جوز على خلاف القياس دفعاً لحاجة المفاليس.
ومشروعية خيار الشرط في البيع ونحوه للتروي ودفعاً للندم، ومن ذلك أيضاً ما أفتى به بعض الفقهاء برد المبيع بخيار العيب الفاحش، إذا كان فيه تغرير رحمةً بالمشتري ومنه الرد بالعيب، وشرعت المضاربة للمشقة العظيمة في أن كل واحد لا يتعاطى أموره إلا بنفسه، ولا يستثمر ماله إلا بنفسه، ومن التخفيف جواز العقود غير اللازمة لأن لزومها شاق، فتكون سبباً لعدم تعاطيها، ووقفنا عزل الوكيل على علمه دفعاً للحرج عنه، وكذا عزل القاضي، ومن التخفيف لهذا السبب إباحة نظر الطبيب لعورة المنظور إليه لحاجة التطيب والعلاج، وجواز رؤية المخطوبة، وصحة النكاح من غير نظر المخطوبة مما في اشتراطه من المشقة التي لا يتحملها كثير من الناس في بناتهم وأخواتهم من نظر خاطب، فكان التيسير فيه عدم ثبوت خيار الرؤية فيه بخلاف البيع فإنه يصح قبل الرؤية وله الخيار لعدم المشقة، ومن ذلك أيضاً إباحة الزواج بأربع نسوة فلم يقتصر الشرع في إباحة الزواج على واحدة تيسيراً على الرجل وعلى النساء أيضاً لكثرتهم ولم يزد على أربعة لما فيه من المشقة على الرجل في القسم وغيره، وشرع الطلاق لما في البقاء على الزوجية من المشقة عند التنافر، وكذا مشروعية الخلع والافتداء، والرجعة في العدة قبل الطلاق الثالث، ولم يشرع دائماً لما فيه من المشقة على الزوجة.

ومن التخفيف لهذا السبب:

إسقاط الإثم عن المجتهدين في الخطأ والتيسير عليهم بالاكتفاء بالظن ولو كلفوا الأخذ باليقين لشق عليهم وعسر الوصول إليه.

وجوز أبو يوسف استبدال الوقف عند الحاجة إليه بلا شرط وجوزه مع الشرط ترغيباً في الوقف وتيسيراً على المسلمين، ومنه أيضاً مشروعية الوصية عند الموت ليتدارك الإنسان ما فرط منه في حياته، والوجه في اعتبار تشريع جواز الوصية عند الموت- على ما أرى- أن التفريط في حال حياته من الأمور الكثيرة الوقوع في الناس فلو منع الإنسان من الوصية عند الموت لكان في ذلك عسر ومشقة عليه، فكان في جوازها فرصة له لتدارك ما كان مما كان عليه فعله، ولكن منع من الوصية بأكثر من الثلث وإيقاف ما زاد عليه من إجازة الورثة منعاً للضرر عن الورثة والضرر أمر شاق وعسير على الورثة.

82- سابعاً: النقص(1):

ويراد بالنقص ما يوجد في الإنسان من حالة أو وصف من شأنها عدم قدرته على القيام ببعض التكاليف الشرعية التي يكلف بها غيره الذي لا توجد فيه تلك الحالة أو الوصف مما يجعل تكليف من به هذا الذي يعتبر نقصاً فيه مرهقاً وشاقاً له، مما استوجب التخفيف والتيسير على صاحب هذا النقص، ومثلوا لذلك بالنساء والصبيان والعميان ونحوهم، فبالنسبة للمرأة خفف عنها بعدم تكليفها بكثير مما كلف به الرجل كصلاة الجماعة والجمعة والجهاد بالقتال، وتحمل العقل، أي: الاشتراك في دفع الدية عند وجوبها، وإباحة لبس الحرير لها والتحلي بالذهب مع حظر ذلك على الرجل، لما في إيجاب هذه الأشياء الواجبة على الرجل وفي منعها عما منع عنه الرجل من مشقة وعنت عليها، وبالنسبة للصبي ومن في حكمه، كالمجنون، لم يكلفوا بما كلف به الرجل البالغ العاقل لما في تكليفهم مع وجود هذا النقص فيهم من مشقة لهم وعنت كبير.
وبالنسبة للأعمى لم يجب عليه الجهاد بالقتال ولا صلاة الجمعة وغير ذلك من التخفيفات دفعاً للحرج والمشقة عنه.

83- أنواع التخفيفات(1):

* تخفيفات الشرع أنواع:

الأول: تخفيف إسقاط، كإسقاط العبادات عند وجود أعذارها.

الثاني: تخفيف تنقيص، كالقصر في الصلاة.

الثالث: تخفيف إبدال، كإبدال الوضوء والغسل بالتيمم، والقيام بالقعود والاضطجاع، والركوع والسجود بالإيماء، والصيام بالإطعام.

الرابع: تخفيف تقديم، كالجمع بعرفات، وتقديم الزكاة قبل مضي الحول.
الخامس: تخفيف تأخير، كالجمع في مزدلفة، وتأخير الصلاة عن وقتها في حق مشتغل بإنقاذ غريق ونحوه.
السادس: تخفيف ترخيص، كشرب الخمر للغصة، وأكل الميتة للمضطر.

السابع: تخفيف تغيير، كتغيير نظم، أي: كيفية الصلاة للخوف.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى